شهدت منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة تقاطراً لقادة كثر من جيش الولايات المتحدة الأميركية رفيعي المستوى، ومن مسؤولي أجهزة استخباراتها، كان آخرهم وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، الذي زار الأردن ومصر وإسرائيل، بعد يوم من زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي إلى شمال شرق سوريا، قبل أن يتبعها بأخرى لإسرائيل.
يأتي كل هذا بعد أقل من شهر على زيارة حملت الكثير من الملفات لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي.أي.إي) CIA ويليام بيرنز إلى إسرائيل بعدما بات الجميع يعلم أن وراء الأكمة قد أينعت قنبلة إيران النووية، وقد يكون قطافها قد حان، في حين أن الشغل الشاغل لواشنطن يتركّز على ترتيب المنطقة لأيّ عمل عسكريّ مفاجئ ضد طهران، بعد سنوات من التهديد بضرب منشآتها النووية لمنعها من امتلاك سلاح دمار شامل. لكن الصواريخ والطائرات ظلّت حبراً على ورق خطةٍ لم ترَ النور بسبب حسابات دولية، والخشية من اندلاع حرب لا يمكن إطفاء أوارها في الشرق الأوسط.
واليوم، مع كشف الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن عثور مفتّشيها على جزيئات من اليورانيوم مخصّبة بنسبة تزيد عن 80 في المئة، أي أقلّ بقليل من نسبة 90 في المئة اللازمة لإنتاج قنبلة ذرية، ربطًا بتأكيدات الاستخبارات الأميركية أن إيران قادرة على صنع قنبلتها النووية خلال 12 يومًا. إذن يبدو أنّ المحظور اقترب وقوعه، وبات التفكير أكثر جدّيةً بحرب في المنطقة تقصم ظهر إيران لردع دمار شامل أكبر.
ويبدو أن هذا ما قرأتْه إيران من “مكتوب” حراك واشنطن العسكريّ المحموم، مصحوبًا باستعدادات في إسرائيل وصلت إلى حدود التدريب على محاكاة حقيقية لقصف طهران. وهذا ممّا حَدا بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى استقبال مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي ليؤكّد أمامه عزم بلاده التعاون ربما حتى النخاع مع الوكالة الدولية، بالرغم من التقارير التي تؤكد أن الوكالة وجدت آثار يورانيوم في مواقع غير معلنة.
فقد بلغ تخصيب اليورانيوم في إيران حدًّا يشي باقتراب كارثة امتلاك القنبلة النووية، بعد تراجع طهران عن تنفيذ عدد من بنود الإتفاق النوويّ المبرم عام 2015 مع مجموعة (5+1)؛ وهي مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين بالإضافة إلى ألمانيا؛ عقب الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 إبّان ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
بيد أن إسرائيل قدّمت الكثير من الدلائل على نواياها بضرب إيران، حتى أن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو لم يستطع كظم غيظه من تصريح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي عندما قال: “إن قصف مفاعلات إيران مرفوض ومخالف للقانون الدولي”، ليخرج نتنياهو على الفور واصفًا تصريحات غروسي بأنها “غير ذات قيمة”.
في السياق ذاته، لم تتأخّر أذربيجان عن تقديم المزيد من دلائل قرب الضربة إثر تسريب الصحف الإسرائيلية تفاصيل وعود أذربيجان لإسرائيل بالسماح لها باستخدام مطاراتها إذا أرادت مهاجمة “نووي إيران”. كلّ ذلك يُثير الكثير من التساؤلات حول ماهية الزيارة التي قام بها أوستن إلى المنطقة وكواليسها؛ ولماذا اختار أن تكون الأردن المحطة الأطول في زيارته؟
وما علاقة روسيا ونظامها الصاروخي “إس 400” بهذه الحرب التي بدأت تطلّ برأسها في الشرق الأوسط؟!
الناتو العربي مخاض جديد
بالرغم من أن البيان الأميركي لزيارة أوستن إلى المنطقة لم يحدّد أهدافًا أكثر من عقد مباحثات مع قادة المنطقة لدعم وتقوية الشراكات وتعزيز التعاون، فإن تسريباتٍ إعلاميّة أميركيّة سارعت لتكشف بعضًا ممّا خَفي بالحديث عن رغبة إدارة الرئيس الأميركي جوزف بايدن في إزالة شكوك قادة الشرق الأوسط بشأن التزام البيت الأبيض بالاحتياجات الأمنية للمنطقة، بعد التدقيق المتزايد على مبيعات الأسلحة وتراجع الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان والخليج العربي.
بعدها، جاءت تصريحات نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط دانا سترول لتكشف المستور، ولتزيح غمامة ستُرعب ما وراءها طهران، عقب تأكيدها أن زيارة أوستن للمنطقة إنّما تأتي لبحث ملف التهديدات الإيرانية وضرورة التصرّف بسرعة لتطويق خطر طهران، عبر تعاون إقليمي متعدّد الأطراف، مع وضع الخيارات العسكرية على الطاولة أكثر من أي وقت مضى.
كذلك أشارت المسؤولة الأميركية إلى عزم أوستن على قضاء الفترة الأطول من زيارته في الأردن، عندما أكدت أن واشنطن تسعى مع الحلفاء لنظام دفاعيّ وصاروخيّ مشترك لردع إيران، ممّا يُعيد إلى الذاكرة التأييد الشديد من ملك الأردن عبدالله الثاني لإنشاء نسخة شرق أوسطيّة من حلف “الناتو” بمهام واضحة، في وقت بات من الواضح أن واشنطن تريد تشكيل هذا الحلف بسرعة، خصوصًا في ما يتعلق بتفصيل الأنظمة الصاروخية والقوات الجوية، لأن منطقة الشرق الأوسط – بحسب مراكز دراسات عسكرية أميركية – مقبلة على تطورات سياسية وعسكرية مهمّة، تتمحور حول إيران ونفوذ روسيا والصين.
وبات من المرجّح جدًا أن يكون موضوع زيارة أوستن وضع قواعد تأسيس هذا التحالف، الذي قد يضمّ دولاً عربية، مثل دول الخليج العربي باستثناء قطر، إضافة إلى مصر والأردن وربما المغرب إلى جانب إسرائيل التي تأمل في ألا يعرقل اشتعال النزاع مجددًا مع الفلسطينيين أيّ مشروع عسكريّ شرق أوسطيّ هدفه ضرب إيران قبل امتلاكها النووي.
لكن احتمال تأخّر إنشاء مثل هذا التحالف أو وقوع عقبات في طريقه ما زال واردًا، فلم يخفَ على وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التفكير في المناورات العسكرية الأميركية – الإسرائيلية الموسّعة بغية التحرّك بسرعة في المنطقة لمواجهة أيّ خطر.
*روسيا تطلّ برأسها*
في وقت يدور الحديث عن شراكة عسكرية روسية – إيرانية تكبر يومًا بعد يوم، بدأت إيران بتزويد روسيا بمسيّرات قتالية تسهّل مهام قواتها بقصف مواقع الجيش الأوكراني، قبل الحديث حتى عن اعتماد روسيا على صواريخ وأسلحة إيرانية أخرى.
يبدو أن الشراكة العس ية وصلت إلى حدّ التحالف الكبير، مع تواتر أنباء عن قرب تسليم موسكو لحليفتها طهران صواريخ “إس-400” الروسية بهدف واحد وواضح قوامه إفشال أيّ هجوم صاروخي أو جويّ أميركي – إسرائيلي لتدمير منشآت إيران النووية، أو قصف مواقع حسّاسة تقصم ظهر إيران عسكريًا. كلّ هذه المعطيات تحفّز إسرائيل، بحسب تقارير إعلامية عبرية وغربية – لتقريب موعد قصف المنشآت النووية الإيرانية.
ولا أدلّ على هذا الحراك من زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ومسؤولين آخرين إلى واشنطن للتباحث مع مسؤولين في الإدارة الأميركية بشأن مسألة مساعي طهران للحصول على المنظومة الصاروخية الروسية.
وقبل ذلك، كشفت “القناة 13” الإسرائيلية عن أن رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي عقد في إسرائيل اجتماعاتٍ أمنية مع أرفع القادة العسكريين والاستخباريين، بينهم وزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس جهاز الاستخبارات الاسرائيلية (الموساد) ديفيد برنياع، تمهيدًا لزيارة أوستن ووضع اللمسات الأخيرة على خطة ثنائية، قد تلجأ لها واشنطن وتل أبيب لضرب طهران، وهو ما يمكن قراءته من خلال تصريح مسؤول في “الموساد” لصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، وعرّف عن نفسه بأنه كان من بين المخططين للاستيلاء على وثائق مشروع إيران النووي.
وبحسب هذا المسؤول، فإن إسرائيل أمام مرحلة مصيرية في التعامل مع ملف إيران النووي، في وقت ينشغل فيه نتنياهو بإحداث تغييرات في النظام القضائي، الأمر الذي يتسبّب بشرخ كبير في المجتمع الإسرائيلي، في توقيت مصيري، لأنه وفقًا للمسؤول الكبير في “الموساد”، فإن إسرائيل اليوم بحاجة لجبهة داخلية متراصّة وموحّدة، بالتزامن مع صدقيّة التهديدات الإسرائيلية بشنّ عمل عسكري ضد المنشآت النووية في إيران، ممّا يشي بأن القرار الإسرائيلي ربما اتُخذ لضرب طهران.
ما تقدّم يفرض سؤالاً هو: هل ستُقدِم إسرائيل على هذه الخطوة منفردة أو بالشراكة مع أميركا؟
لكن السؤال الأوسع يبقى: هل تتطوّر هذه الضربة إلى حرب يُشارك فيها ناتو عربي، قبل أن يولد، أم أن روسيا ستمدّ يد المساعدة لحليفتها إيران فتمتدّ بؤرة صراعها مع الغرب وأميركا من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط؟!